قصائد مُختارة للشَّاعر الإيطالي ساندرو بِنَّا Sandro Penna (1906-1977)
ساندرو بِنَّا في سطور:
وُلِدَ ساندرو بِنَّا في 12 حزيران/ يونيو 1906 في مدينة بيرودْجا. حين كان في السَّادسة عشرة من عمره تركت والدته المنزل ورحلت إلى روما، ووِفقاً لما جاء في مذكَّراته فإنَّ غياب أمِّه هو ما ألهم أولى محاولاته الشِّعريَّة. قرأ في شبابه ليوباردي ودانُّونتسو وباسكولي وأونغارِتِّي وسابا ومونتالِه وغيرهم، كما أولِع بمؤلِّف "اللاأخلاقي" أندريه جيد، وكذلك برامبو إذ كتب في رسالةٍ إلى صديقه أكروتو يقول: "الآن أصبح رامبو إلهي بحقٍّ...". نُشِرتْ مجموعته الأولى "أشعار" سنة 1939، ليصمتَ بعدَها إحدى عشرة سنة قبل صدور مجموعته الثانية "ملاحظات" والتي لم ينتبه إليها إلا قلَّةٌ من النُّقَّاد، لعلَّ أهمَّهم بيير باولو بازوليني. في 1956 صدرت مجموعته الثَّالثة "فرحٌ غير مسبوقٍ بالحياة"، والتي بعكس المجموعة السَّابقة لاقت استحساناً كبيراً من النُّقَّاد، ومرَّةً أخرى خصَّها بازوليني بمراجعةٍ نقديَّةٍ رائعة، كما حصل بِنَّا عنها على جائزة غراتسييه الأدبيَّة. تلتها، في 1958 مجموعته الرَّابعة "صليبٌ وغبطة"؛ وفي 1970 نشر بِنَّا "كل القصائد" جامعاً قصائده الأخيرة والقصائد الأولى التي لم تُنشر قبلَذاك. في 1973 ظهر له كتابٌ بعنوان "قليلٌ من الحمَّى"، وهو مؤلَّفه النَّثريُّ الوحيد، والذي ضمَّ قصصاً وذكرياتٍ وكتاباتٍ حول رحلاتٍ قام بها في الثَّلاثينيَّات والأربعينيَّات من القرن المنصرم. ظهرت مجموعته "غَرَابات" سنة 1976، وفي 21 كانون الثَّاني/ يناير 1977 توفِّي ساندرو بِنَّا إثر أزمةٍ قلبيَّة، قبل أيَّامٍ قليلة من حصول هذه المجموعة على جائزة باغوتَّا، وفي شباط/ فبراير من العام نفسِه ظهرت مجموعته الشِّعريَّة الصَّغيرة "المترحِّل المؤرَّق" التي كان بِنَّا قد أعطى الإذن بنشرِها قبل موتِه.
* * *
في مقالةٍ نقديَّةٍ حول مجموعته ("ملاحظات"، 1950) كتب بييرو بيغونجاري عبارةً أصبحت فيما بعد من بين أكثر المقولات النَّقديَّة -حول شعريَّة بِنَّا- جدارةً بالاقتباس، إذ يصف فيها شعرَ بنَّا بأنَّه "زهرةٌ بلا ساقٍ مرئيَّةٍ: تبدو لنا، نحن النَّاظرين، كواحدةٍ من تلك الأزهار الباهرة التي تطفو على الماء"؛ وفيما تُقرَأ عبارة بيغونجاري هذه على أنَّها وصفٌ لرونق القصيدةِ وإشراقِها الجليِّ والفوريِّ عند بِنَّا، فإنَّ فيها في الوقت نفسه إلماعاً إلى ما هو محجوبٌ ومعمَّى تحت ذلك الجمال، إنَّه تلك "السَّاق" البائنة في غيابها، والتي يسمِّيها بِنَّا في مجموعته ("فرحٌ غير مسبوقٍ بالحياة"، 1956) جذرَ آلامِه. ولقد أضاءَ بازوليني أيضاً على هذا الجانب في شِعر بِنَّا، واصفاً كتاباته بأنَّها "صنيعٌ بنيويٌّ تَورياتيٌّ"، يعتمد تقنيَّةً إلاحيَّةً، أكثر ممَّا يعتمد التَّصوير الصِّرف، إلى مضامين جنسيَّة أو محرَّمة. وبالنِّسبة إلى بازوليني فإنَّ الاختلاف الشِّعريَّ عند بِنَّا عن التَّيارات الأدبيَّة المهيمنة وعن القيم الاجتماعيَّة السَّائدة لَهو أمرٌ هامٌّ ومبتكَر، ولقد عظَّم بازوليني من شأن بِنَّا واصفاً إيَّاه في رسالةٍ كتبها إليه بأنَّه "ربَّما أكبر الشُّعراء الطِّليان الأحياء وأشدُّهم اغتباطاً". وصفَ قرَّاءُ بِنَّا الأوائل شِعرَه بأنَّه "إغريقيٌّ"، ولعلَّ ذلك عائدٌ من جهةٍ إلى ميول الشَّاعر الجنسيَّة المبطَّنة، ومن جهةٍ أخرى إلى أسلوبه الاختزاليِّ اللطيف والخالي من الحدَّة والخشونة. زدْ على ذلك، لطالما كُتِبَ أنَّ بِنَّا كان يقتفي في قصائد حبِّه أسلوبَ بترارك. بطبيعةِ الحال، لم يحظَ بِنَّا بشهرة معاصرِه مونتالِه الذي تربَّع على عرش الشِّعر الإيطاليِّ في القرن العشرين، وعن ذلك يقول النَّاقد تْشِزارِه غاربولي: "لقد كان بِنَّا، في هذا القرن، الشَّاعرَ الإيطاليَّ الوحيد الذي تكلَّم بملء فمِه، معلناً بوضوحٍ مَن هو وماذا يريد، على النَّقيض من سلبيَّة الأسلوب المونتاليِّ القويِّ والمنتصِر". من جهةٍ أخرى، كثيرٌ من النقَّاد، ومن بينهم دي روبيرتيس، يرون أنَّه ينبغي لأعمال بِنَّا أن تُقرَأ كدواوين شعرٍ غنائيٍّ، لما تتَّسم به من وحدةٍ شكليَّة، ولموضوعاتها المتعلِّقة بالسِّيرة الذَّاتيَّة، كما لو كان بِنَّا خلال حياتِه بأسرِها لا يكتب إلَّا كتاباً واحداً.
* * *
إذن، تميل قصائد بِنَّا إلى القِصَر، وغالباً فإنَّها لا تتجاوز المقطع الشِّعريَّ الواحد أو المقطعين، وهي تتَّصف فوق ذلك ببساطة المفردات، ولعلَّ أكثر الكلمات تكراراً في شِعرِه: "حُبٌّ"، "شمس"، "حياة"، "ضياء"، "قلب"، "عين"، "شيء"، "مساء"، "بحر"، "مغتبط"، "بهي". وعلى ذلك ترى إمِليا روسِّلِّلي أنَّ قصائد بِنَّا "سهلة القراءة، حتَّى لأولئك غير المثقَّفين". زد على ذلك أنَّ بِنَّا استخدم في شِعره بعض المفردات العتيقة واللاغية من قبيل: "غلام"، وهي المفردة التي تكرَّرت 88 مرَّةً في أعماله الكاملة؛ وهذا ما يجعل لغته الشِّعريَّة في آنٍ واحدٍ أدبيَّةً وشعبيَّةً بنُبْلٍ. إجمالاً يمكن القول إنَّ قصائد بِنَّا تترك لدى القارئ انطباعاً بأنَّ الأشياء لا تحدُث، وإنَّما ببساطةٍ "تكون"، أو "قد تكون".
النُّصوص:
[من مجموعة "أشعار" 1939]
الحياة... إنْ هي إلَّا استذكارُ استفاقةٍ حزينةٍ
في قطارٍ ذاتَ فجرٍ: إذْ يبزغ
في الخارجِ ضوءٌ لايقينيٌّ: إذْ تُحَسُّ
داخل الجسدِ المحطَّمِ تلك الكآبةُ البكرُ
والحامضة، كآبةُ الهواء الواخزِ.
غير أنَّ استذكارَ التَّطلُّقِ الفجائيِّ
مستعذَبٌ أكثر: آنذاك، ملَّاحٌ بجواري:
يا لَزُرقةِ وبياضِ بدلتِه، وفي الخارج
بحرٌ طازجُ اللون.
* * *
خريف
الرِّيحُ استودعتكَ اليومَ في الحواسِّ
الرَّجعَ المصفَّى لكلِّ الأشياء المشوَّشة التي
رأيتَها. لن تُحسِنَ اتِّقاء النُّعاس
إذا تراءتْ سطوةُ التَّرنيق: أقحوانةٌ،
بحيرةٌ راجفةٌ ورتلٌ طفيفٌ
من شجرٍ أخضرَ أصفرَ تحت الشَّمس.
* * *
ليت الحياة تدرِكُ مقدارَ حبِّي!
لَكنتُ مضيتُ هذا المساءَ بعيداً.
لَكنتُ مضيتُ إلى حيث تقبِّلني الرِّيحُ
إلى حيث يحدِّثني النَّهرُ صاغراً.
لكن مَن يثبتُ لي أنَّ الحياة تشبهُ
الغلامَ الرَّاكضَ نحو البعيد البعيد؟
* * *
في النُّعاسِ المتردِّدِ أحلمُ بعدُ قليلاً.
لعلَّه النَّهار. من جهةِ الشَّارع يتناهى
صفيرُ صيَّادٍ، ما أدفأ نغمته.
يجيبه صوتٌ ناعسٌ.
أهو ارتعاشُ الحواسِّ - مع الأشرعةِ، خارجاً،
في الرِّيح؟- أحلمُ بعدُ قليلاً.
* * *
لو أنَّ هذا الليل الصَّيفيَّ ينحني قليلاً
على ضفَّةِ البحر لَأطْلَعَ مِنه
- في ولادةٍ صامتةٍ كولادة ألوانه-
بَشَراً عراةً يخِفُّون سِراعاً.
لكن مثلما تحرِّك الرِّيحُ البحرَ، كذا
يحرِّكُ البشرُ، هاتفين، قواربَهم.
على قطرةِ العرقِ الأخيرة تنبلجُ الشَّمس.
* * *
[من مجموعة "ملاحظات" 1950]
فرِحٌ هو المختلِفُ
بأنَّه مختلِفٌ،
لكن ويحٌ للمختلفِ
إذا صار مألوفاً.
*
ثمَّ ها أنا وحيدٌ. لم يبق إلا
الصُّحبة المستعذبة
لشمعداناتٍ بريئةٍ مضيئة.
*
هو ذا خريفٌ ناعسٌ. تبرقُ
من خلف البلَّورِ المشعِّ
عينانِ مشعَّتان.
*
أليس الحياء الذي تُخفيه حلماً مشوَّشاً
من أحلام الآلهة؟
*
يفيضُ في الليل المندَّى صامتاً
نهرٌ. وداعاً يا ألق غلمتي المهزول.
* * *
[من مجموعة "صليبٌ وغبطة" 1958]
آه يا حياتي المغتبطة التي أَأْتمنها
على كلِّ اختبالٍ عذبٍ مستوحدٍ من اختبالاتي.
*
إيقاعٌ يتشكَّلُ مِن جديد. ربيعٌ
في المدينة الجذلى، حيث يهرعُ غلامٌ
نحو فرقةٍ نحاسيَّةٍ عابرة؛ والكنائسُ تسهو
عن المؤمنين، وفي الجُنَيْناتِ
تهجعُ الدَّرَّاجاتُ ناسيةً منسيَّة.
*
[امرأة في التِّرام]
تريدين تقبيل طفلك الذي يتأبَّى:
هائمٌ هو بمرأى الحياةِ، في الخارج.
يا لَخيبتك الآن، ولكنَّك تبسُمين:
ما هي بغُصَّةِ الغيرة
ولئن كان هو شبيهاً بالرَّجل الآخر
الذي لأجلِ "مرأى الحياة، في الخارج"
هَجَركِ هكذا ...
*
وحده غلامٌ يصغي إلى صوتي.
بينما العالم بأسرِه يتكلَّم عنِّي: هكذا أحترق.
* * *
[من مجموعة "كلُّ القصائد" 1970]
لن يكون شِعري
لهواً خفيفاً
مصوغاً من كلماتٍ رهيفةٍ
ومعتلَّة
(محضَ بقعٍ آذاريَّة
على أوراق الدُّلبِ المرتعشة
بأخضرَ فائق البيان)
سيُطلِقُ شِعري قوَّته
طالباً اللامتناهي
(كلهوِ لاعبٍ أولمبيٍّ فاتنٍ
في غسقِ الصَّيفِ المديد).
*
مُسترخياً في صبيحةٍ ربيعيَّة،
أحسُّ صباحاتٍ مفكَّكةً ومشوَّشة
تولَدُ في داخلي. لم أعد أعلم
أأموت الآنَ أم أنَّني أولَد.
*
قل لي أيُّها الضَّوء السَّماويُّ
الفاقدُ كلَّ حجابٍ،
أهكذا انسللتَ في وجهه؟
*
نمضي، نمضي بلا أملٍ
ونحن بعدُ معاً في الليلةِ المخمليَّةِ البعيدةِ الغَوْرِ
والخفيفة الوطأة، ليلةِ الصَّيفِ هذه.
*
أيؤلِمُ النَّقاءُ أكثر أم الرَّذيلة؟
إن كنت تتكلَّمُ على الحبِّ فإنَّه النَّقاء.
*
دائماً غِلمةٌ في قصائدي،
لكنِّي لا أحسنُ الكلامَ عن أشياء أخرى.
كلُّ شيءٍ خلا ذلك مُضجِرٌ،
وليس في مُكْنتي أن أنشدَ لكم أعمالاً مقدَّسة.
* * *
[من مجموعة "غَرابات" 1976]
لقَّبوني بـــِ "شاعرِ الحبِّ حصراً"،
ولعلَّهم محقِّين. لكن ماذا عن الرِّيحِ
ههنا فوق الحشائش، وعن ضوضاءات
المدينة القصيَّة،
أليست هي الأخرى حبَّاً؟
وتلك الأصوات تحت غيومٍ مسخَّنة
أليست هي أيضاً
أصوات حبٍّ يتأجَّجُ
ويأبى الزَّوالَ قيدَ أنملة؟
*
وداعاً أيُّها الغلام، ادخل في الظُّلمةِ ثانيةً.
تلك هي دربي، ظلمةٌ فوق نهرٍ؛
من هنا إلى ما شاءَ العالَم. غير أنَّ ضياءنا
الخفيَّ لا يني يتوقَّد، ساعةً إثر ساعة.
*
الرَّاعي، أحبَّ أن يقصُصَ حكايةً
مِن حكاياه، ولكنَّ الوسن أخذَه.
القطارات المبحوحة تتضرَّع إلى النُّجوم
والوجوه تضطرمُ في قلبي.
* * *
[من مجموعة "المترحِّلُ المؤرَّق" 1977]
2
من غمامةِ الهباء الفحميَّة
تحيِّيني ابتسامةٌ في تمامِ البياض.
إلَّا أنَّ الملاك الخشبيَّ للقارب يحدِّق
في المِبوَلاتِ الكَمِدةِ والفائحة
المباغَتَة في كلِّ ركنٍ- أغريمةً كانت
للبطِّيخ الأحمر أم خليلةً أثيرة.
كلُّ المِبوَلاتِ خليلاتي... لكن أليست
وِجهتي الجبلَ حيث ألتقي
- بينما البحرُ بعيدٌ والشَّميمُ فاجرٌ-
بالمغتلمِ المضمَّخِ بالتِّين.
7
إذْ ينفلعُ الصَّيفُ، القمرُ
يطرِّي السَّماء، يطرِّيها للغاية.
على سوادِ أوراقِ الشَّجر المكثَّف
تنهمرُ الطَّراوة.
12
يا لَلَّيالي الخاوية، الزَّاخرة بطبولٍ
تعبرُ بغتةً. فيما القمرُ
يدوزنُ كلَّ صرخةٍ في ذلك الصَّمت.
14
(إلى إيوجينيو مونتالِه)
في العيدِ أمضي نحوَ الغروب
باتِّجاهٍ معاكسٍ لوِجهةِ الحشد الذي
ينصبُّ مغتبطاً وحثيثاً من الميدان.
لا أبصرُ أحداً وأبصرُ الجميع.
أقتطفُ ابتسامةً بين حينٍ وآخر؛
وقلَّما أقتطفُ تحيَّةً احتفاليَّة.
لم أعد أذكر البتَّةَ من أكون.
يؤسفني أن أموت الآن.
لَهوَ فِعلٌ فائق الجور أن أموت،
حتَّى وإن كنت لا أذكر من أكون.
اختارها وترجمها عن الإيطاليَّة: أمارجي